جلسة توبيخ ..!!

كنت جالسا على كتف نهر قريتي متأملا محملقا في السماء كمن يراها لأول مرة وشكرت الله على جمال زرقة عينيها المكحلتين بغيمة بيضاء تتهادى مع نسمات الصباح كعروس من جميلات البشر في يوم زفافها
وبينما أنا غارق في هذا العالم السحري الأخاذ ....شعرت بنملة تتسلق على يدي وكأن لسان حالها يقول نحن أيضا من بديع خلق الله ...وصلتني إشارتها وبدأت من فوري أرقبها بعين فاحصة متأنية تقرأ تفاصيل ما يجري ...
قلت في نفسي عجيبة هي ممالك النمل التي يأسر سحرها ودقة أداء أفرادها كل متأمل لهذا العالم الفسيح ....!!
قرأت صديقتي النملة دهشتي على محياي وقالت بصوت خفيض :
لا تعجب فالعمل هو الكلمة الوحيدة المدونة في دستور ممالك النمل, ومن حسن طالعنا أن النملة ضئيلة الجسم ولها رأس لا يتسع إلا لدستورها الذي تنتفي فيه الحاجة إلى مشرعين لتفسيره بل إلى أجهزة لتنفيذه...
سألت : ألا تأخذون إجازات رسمية أو عارضة بعد أيام نصب...!؟ أشارت :بلا....!! لكنها قالت :

اسمع أيها الإنسان سأختصر لك ما نحن عليه ... إننا لا نعرف طريقا للثرثرة والنميمة والتسكع والتسيب والتهرب من المسؤولية والبحث عن منصب ومنافقة من هم أعلى شأنا ...كل ذلك هو بالمطلق غير وارد في قاموسنا...!! قلت:
ماذا يقدم معشر نمل للإنسان...!؟ تنهدت وقالت:
ربما لا يفيد الإنسان ماديا من وجودنا لكننا نمثل حكمة الكون ورسالة الخالق العظيم في وجودنا لإعمار الأرض بالعمل بلا أمل ..!!
رسالتنا مجردة عن كل هوى وأنانية ونزوة مغروسة في ثنايا طباع بني البشر ..

طلبت النملة أن أتفرس في وجهها وقوامها وصمتت لهنيهة ثم سألت :
هل بإمكاني أن أميزها عن أي نملة أخرى في عشيرتها...!؟ قلت :لا...!!

قالت :هذا هو سرنا الكبير أي أننا كلنا واحد ونحمل اسم نملة ... نعمل سويا ونأكل ونشرب من إناء واحد وننام كل في زاويته مطمئنا غير خائف على روحه وقوت غده

أما انتم معشر البشر فأمركم أعجب من العجب العجاب ,حياتكم مسلسل من مآس وتعقيدات نسجها نول أنانيتكم بخيوط من الكراهية ولسان حال كل منكم يقول أنا وبعدي الطوفان حتى برعتم في ابتكار أدوات تدميركم ,تقتلون بعضكم وتتزاحمون على المغانم وبينكم كثيرون ضعاف جياع ..!!

سرت القشعريرة في جسمي لما سمعت وكأنني وقعت أسير جلسة توبيخ على أفعال أبائي وأجدادي البيض والسود والحمر والصفر.....
تابعت النملة حديثها وقالت :
حتى بنو نمل لم يسلموا بجلودهم من شروركم فهم يموتون من رائحة بارودكم وتتهاوى بيوتهم فوق رؤوسهم بقصف مدافعكم وطائراتكم مع إن التاريخ لم يسجل يوما إعلان حرب النمل على الإنسان أو مزاحمته على مناطق النفوذ والسلطان ....

استأذنتني بالانصراف وهي تتمتم بهذه الكلمات : إن ما قلته هو الحقيقة ولو أنكم تتعاملون معها مثلنا عارية لما آل إليه أمركم إلى ما انتم عليه,لقد ألبستموها قسرا أكواما من أسمال أنانياتكم وأحقادكم حتى اختنقت وماتت وانتم لا تدرون ,فضاع ميزان الحق ورجحت كفة باطلكم ...!!

آلمني الموقف وخرجت آه كبيرة من صدري وأويت إلى ركن بعيد استعيد فيها وعيي وكل كلمة وعبارة في الحوار النملي الإنساني وقلت: صدقت النملة فمصائبنا هي بالفعل من نسج أيدينا وان بعض بشرنا دنس قدسية العمل باللهو وبالهروب إلى الوراء ومع ذلك يريد هذا البعض كل شيء مقابل لا شيء....فهل سنبقى في التيه أم سنعمل على إعادة تتويج الحقيقة والعدل ملكين ...لتستقيم إنسانيتنا....!!؟