راحت السكرة وجاءت الفكرة ...!!

لم يكن ذلك اللقاء اليومي يستمر أكثر من دقيقة واحدة ..
لكنه كان يشغلني بقية اليوم , كنت انتظر تلك اللحظات بفارغ الصبر , وكم كرهت يوم العطلة لخلوه من تلك اللحظات ...
وهاهو المفترق الذي اعتدت الإنعطاف منه للوصول إلى مدرستي ...
و ها هي تأتي من الجهة المقابلة ... يجب علي أن أبطئ السير قليلاً كي لا أنعطف قبل وصولها , هاهي , نعم إنها هي , اقتربت مني , يداعب الريح خصلات شعرها الأشقر وتعطي برودته لوجنتيها لوناً احمر , امتزجت النظرات ’ أهي تبتسم لي أم أن ملامح وجهها توحي أنها مبتسمة ...!!؟

كان عمري حينها ستة عشر عاماً , ينتابني صراع داخلي حاد بين الطفل وبين الرجل ... الطفل الذي يريد أن يحتفظ بي ويعز عليه فراقي , والرجل الذي يريد أن ينقلني معه إلى عالم الرجولة ....
أحيانا كنت أقول من الأفضل إن أبقى طفلا فلا يحاسبني أحد على نظراتي لبهية ( لم أكن أعرف اسمها لكن طلتها البهية أوحت إلي باسم بهيه ) , وفي أحيان أخرى أقول لا , يجب أن أصبح رجلاً لأنال إعجابها ....
استمر ذلك الصراع فترة دون حسم , وفي النهاية جاء العامل الحاسم ...
إنها الهوية , حصلت على بطاقة هوية , أيقنت أنني دخلت في مرحلة الرجولة لا محالة , فالطفل لا يحمل بطاقة هوية , كنت سعيداً بالبطاقة , وكنت سعيداً بقدوم الربيع , فالبرد قد انحسر ولم تعد الحاجة ملحة لارتداء جاكيت , أصبح الآن بإمكاني ارتداء قميص أبيض وأن أضع الهوية في جيبه لتراها بهية فتحس برجولتي ....

استمرت لقاءاتنا اليومية ... صرت أحس إن إعجابها يزداد بي وهويتي تظهر من جيب قميصي الشفاف...!!!

السنة الدراسية تقارب على الانتهاء وما زالت العلاقة جنيناً , لا جديد , نظرات متبادلة وابتسامة واضحة مني تقابلها ابتسامة غامضة منها , ما العمل...!!؟
يجب علي فعل أي شيء لكسر ذلك الجمود , بعد تفكير وبعد صولات وجولات اهتديت إلى الطريقة ...!!! الهوية نعم إنها الهوية...

غداً سأنفذ الخطة , ولماذا انتظر الغد ...!؟ اليوم بعد انتهاء الدوام في المدرسة ...

انها ساعة الصفر... هاهي تأتي من بعيد ....وهي الآن على بعد بضعة أمتار مني , حاولت واجتهدت أن لا تلاحظ اهتمامي ولهفتي لقدومها , مشيت أمامها , أظنها لا تحس أنني أتعمد المشي أمامها , وهذا ما أريده , كل شيء يمشي كما هو مرسوم ...

إنه الوقت المناسب , أحسست بيدي ترتجف وهي تمتد إلى جيبي وتخرج الهوية , رميت الهوية من يدي بحركة أظن أنني نجحت بأن تبدو غير مقصودة , تابعت المسير ...

النظر إلى الخلف ممنوع ..!! يجب إن تقتنع بهية بان الهوية سقطت من غير قصد مني ..

أظنها الآن حملتها وهي الآن تستعد لمناداتي .. لماذا تأخرت..!!؟

نعم نعم , هنالك رجل قادم , كم هي ذكية , تنتظر أن يخلو الشارع من المارة , ستناديني , ستعطيني الهوية سترتسم البسمات على شفاهنا , حينها لن أبقي في داخلي أية عبارة للشكر , ولسوف تشعر من كلامي كم أنا مهذب ولطيف , وستشعرها نظراتي كم أنا معجب بها , لن أبذل مجهوداً في التعرف عليها وأخذ موعد للقاء آخر ....

دارت برأسي الكثير من الأفكار بعضها كان يسعدني وبعضها كان يخيفني , ولكن لم العجلة ...!؟ ستناديني الآن ونرى ماذا سيحدث ...

الوقت مناسب فالشارع يخلو تماماً من المارة , هيا اسمعيني صوتك , اقتربي , إنها فرصتنا , لا تضيعيها , نظرتي إلى الخلف ممنوعة وفقاً للخطة الموضوعة ...

أطرقت سمعي ربما أنها تناديني , لا أسمع سوى وقع خطواتي على الإسفلت ...

لا مناص ولا مفر من نظرة خاطفة إلى الوراء ... ويا لهول النظرة ..!!!
لم أر إلا طريقاً فارغاً متعرجاً خالياً , كأنه يضحك ساخراً مني , أين ذهبت ...!؟

لم ألاحظ إلى أي بيت دخلت ومتى دخلت ..!؟؟ أحسست بدوار كاد ينسيني الإتجاهات ...
وكما تقول جداتنا ( راحت السكرة وجاءت الفكرة ) ...
بهية اختفت ولم تكترث بي ولا بهويتي ... ولكن أين الهوية..!!؟
عندما رميتها كنت بحالة من التوتر كافية لتنسيني المكان والزمان ...
رجعت ماشياً أبحث عن الهويةً في الطريق عبثاً ... لم أجد الهوية , أعدت المحاولة دون جدوى ....ضاعت الهوية واختفت بهية ......