مساء العيد

جاء المساء وغمر الظلام المدينة فشعشعت الأنوار في القصور والمنازل وخرج الناس في الشوارع بملابس العيد الجديدة وعلى وجوههم سيماء البشر والاستكفاء ومن بين دقائق لهاثهم تنبعت رائحة المأكل والخمور......

أما أنا فسرت وحيداً منفرداً مبتعداً عن الزحام والضجيج أفكر بصاحب العيد .
أفكر بنابغة الأجيال الذي ولد فقيراً وعاش متجرداً ومات مصلوباً .......

ولما بلغت الحديقة العمومية جلست على مقعد خشبي أنظر من خلال أغصان الأشجار العارية نحو الشوارع المزدحمة وأسمع عن بعد أناشيد المعبدين السائرين في موكب اللهو والخلو.....

وبعد ساعة مفعمة بالأفكار والأحلام التفت وإذ برجل جالس بقربي على المقعد وفي يده عصا يرسم بطرفها خطوطاً ملتبسة على التراب .... فقلت في نفسي : هو مستوحد مثلي . ثم تفرست فيه متبصراً شكله فألفيته رغم أثوابه القديمة وشعره المسترسل ذا هيبة ووقار ... وكأنه قد شعر بأنني أنظر أليه متفحصاً شكله وملامحه فالتفت نحوي وقال بصوت عميق هادئ : مساء الخير . فأرجعت التحية قائلاً أسعد الله مساءك.
ثم عاد يرسم الخطوط بعكازه على أديم الأرض . وبعد هنيهة لأعجبت بنغمة صوته خاطبته ثانية قائلاً هل أنت غريب في هذه المدينة؟
فأجاب: أنا غريب في هذه المدينة وأنا غريب في كل مدينة أخرى
قلت: إن الغريب في مثل هذه المواسم يتناس ما في الغربة من الضيم والوحشة لما يجده في الناس من الأنس والانعطاف
فأجاب: نعم، وما رحمة الغني بالفقير سوى نوع من حب الذات وليس انعطاف القوي على الضعيف إلا شكلا من التفوق والافتخار
قلت:قد تكون مصيبا ولكن ماذا يهم الفقير الضعيف ما يجول في باطن الغني القوي من الرغائب والميول؟ إن الجائع المسكين يحلم بالخبز ولكنه لا يفكر في الكيفية التي يعجن بها الخبز .
فأجاب: إن الموهوب لا يفكر أما الواهب فيجب عليه أن يفكر ويفكر طويلا فأعجبت بكلامه وعدت أتأمل منظره الغريب وأثوابه القديمة...‎
وبعد سكينة نظرت إليه قائلا: يلوح لي أنك في حاجة، فهلا قبلت هذين الدرهمين
فأجاب وقد ظهرت على شفتيه ابتسامة محزنة :نعم أنا بحاجة ولكن إلى غير المال
قلت: وماذا تحتاج؟
فقال: أنا بحاجة إلى مأوى ...أنا بحاجة إلى مكان أسند فيه رأسي.
فقلت : خذ مني درهمين واذهب إلى النزل واستأجر غرفة.
فأجاب : قد ذهبت إلى كل نزل في هذه المدينة فلم أجد مأوى, وطرقت كل باب فلم أرى لي صديقاً ,ودخلت كل مطعم فلم أعط خبزاً.
فقلت : في نفسي ما أغربه فتى يتكلم تارة كالفيلسوف وطوراً كالمجنون!
ولكن لم أهمس لفظ ((مجنون)) في أذن روحي حتى حدق إلي شاخصاً ورفع صوته عن ذي قبل وقال: نعم أنا مجنون , ومن كان مثلي يرى نفسه غريباً بلا مأوى وجائعاً بلا طعام.
قلت مستدركاً مستغفراً : سامح ظنوني فأنا لا أعرف من أنت قد استغربت كلامك , فهلا قبلت دعوتي وذهبت لتصرف الليلة في منزلي؟
فأجاب قد طرقت بابك ألف مرة ولم يفتح لي.
فقلت وقد تحققت جنونه : تعال الآن واصرف الليلة في منزلي .
فرفع رأسه وقال لو عرفت من أنا لما دعوتني .
قلت من أنت؟
قال وفي صوته هدير مياه غزيرة: أنا الثورة التي تقيم ما أقعدته الأمم أنا العاصفة التي تقتلع الأنصاب التي تبتنيها الأجيال. أنا الذي جاء ليلقي في الأرض سيفاً لا سلاماً.
ووقف منتصباً وتعالت قامته وسطع وجهه وبسط ذراعيه فظهر أسر المسامير في كفيه, فارتميت راكعاً أمامه وصرخت قائلاً : يا يسوع الناصري...
وسمعيه يقول إذ ذاك: العالم يعيد لاسمي وللتقاليد التي حاكتها الأيام حول اسمي . أما أنا فغريب أطوف في مغارب الأرض ومشارقها وليس بين الشعوب من يعرف حقيقتي .
للثعالب أوجرة وبطيور السماء أوكار وليس لابن الإنسان أن يسند رأسه .
ورفعت رأسي إذ ذاك ونظرت فلم أرى أمامي سوى عمود من البخور ولم أسمع سوى صوت الليل آتياً من أعماق الأبدية.


حبيت تكون هاي أول مشاركة ونشالله تكون عجبت الجميع