المسيحية و العنف :
لا شك أنّ ظاهرة العنف التي تجتاح العالم في هذه الأيام، ظاهرة تدعو إلى التأمل والقلق. فلقد أصبح الإنسان يقتل أخاه الإنسان بشكل لم يحدث من قبل حتى في أقدم العصور تخلفاً. فالقتل اليوم ليس لأجل قضية ولا يُوجَّه ضد أعداء، بل القتل يتم لشهوة القتل، ويُوجَّه ضد أناس لا علاقة لهم بقضايا، كراكبي طائرة أو سفينة أو مشاة في شارع أو مرتادين في مقهى. وقد يُوجَّه ضد إنسان ينتمي إلى فكر معين أو جنس آخر أو وطن معادٍ، دون أن تكون له مواقف تستدعي القتل علماً أنّ كلَّ هذه المبررات قد وُضعت خطأً لتبرير القتل الذي حرّمه الله. فهو يقتل لمجرد الإنتماء، وهذا ما يسمى بالقتل حسب الهوية.
وموقف المسيحية من العنف أُخذ عليها لا لها. فلقد ظنَّ الكثيرون أنَّ التسامح الذي تبديه المسيحية في تعاليمها هو ضعف، لا يصلح في مقاومة العنف الذي يكتوي العالم بناره اليوم، وإن كان البعض يطلقون على هذا الضعف تسامياً - تأدباً منهم - بقولهم إنَّ سمو تعاليم المسيحية لا تصلح في مجتمعات اليوم.
لكن المتأمل جيداً في كلمات المسيح التي يتعرَّض فيها لظاهرة العنف، لا يجد فيها أي مسحة من الضعف، بل يكتشف فيها قوة غير عادية لنزع بذور الانتقام من داخل الإنسان، ومعالجة العنف بصورة مثلى. ودعونا نقرأ ما قاله المسيح: "سمعتم أنَّه قيل عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضاً. ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين. من سألك فأعطه. ومن أراد أن يقترض منك فلا تردَّه. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلُّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" ﴿متى 5: 38-44﴾.
المسيح هنا يقول إنَّ التجاء شخص ما إلى العنف لتوفير احتياجاته أو فرض آرائه ليس من الإنسانية في شيء. ولا يلجأ إنسان إلى العنف إلا تحت ضغوط اجتماعية ونفسية واقتصادية رهيبة. فبدلاً من أن تدين الضارب وتضربه أي تعاقبه، وبهذا تنتهي المشكلة ظاهرياً، سواء بردعه أو بمنعه عن الضرب غصباً، فمن الأصوب أن تعالج ظاهرة العنف ذاتها، وذلك بأن تمتص الضربة الأولى. فالذي يلجأ للضرب أو الاغتصاب أو تسخير الآخرين، يحتاج إلى عطف لأنه يتصرَّف بدون عقل، ويحتاج إلى من يمتص غضبه ثم يعالجه بعد ذلك. إنَّ امتصاص الضربة الأولى ينزع بذور الانتقام من دواخلنا، ويدعونا للتفكير في احتياجات من يلجأ إلى العنف، سواء احتياجه للثقافة أو للعمل أو للمال. ولذلك يقول المسيح: "من سألك فأعطه". ولم يوضح ماذا سأل وما الذي تعطيه له. إنَّ المسيح يقول ﴿أعطه﴾ ما ترى أنه في حاجة إليه، ربما احتياجه لا إلى ثوب بل إلى إحساس بالأمان...لا إلى عزلةٍ، بل إلى حب وانفتاح وعطاء ذات.
إنَّ مقابلة العنف بالعنف لن يحل المشكلة، بل يزيدها تعقيداً. والمسيح يقول بدلاً من أن ترد بالضرب وتعفي نفسك من المسؤولية، فكر في احتياجات من يلجأ للعنف. إنَّ الذي يريد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، اترك له الرداء أيضاً، لأنَّ دفاعك عن الثوب هو دفاع عن فكر خاطئ أو موقف خاطئ للمجتمع ولك تجاه هذا الشخص. وهذا الموقف الخاطئ هو الذي دفع هذا الإنسان لأن يعتدي عليك ويأخذ ثوبك. لذلك عليك أن تعطيه الثوب والرداء ليهدأ، ويكون هذا اعترافاً منك بخطأ موقفك كشخص وشريك لخطأ مجتمع. ثم عليك أن تهدأ وتقيم حواراً مع نفسك للإجابة على عدة أسئلة هامة جداً: لماذا خاصمني؟! لماذا أراد ثوبي؟ لماذا لجأ للعنف لتحقيق هذا؟!
والسؤال الملح الآن، هو كيف يصل الإنسان إلى هذا المستوى من النضج؟! والمسيح لم يترك هذا السؤال معلقاً بلا إجابة، بل قدم إجابته بحسم وموضوعية، فقال، لكي يصل الإنسان المؤمن إلى هذا المستوى الرفيع من الفكر والروحانية، عليه أن يثق بذاته وبسلطان المسيح فيه.
"سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك... لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" ﴿متى 5 :38-45﴾.
إنَّ عدم مقاومة الشر وامتصاص نوبة العنف، لا يقدم عليها إلا إنسان واثق بذاته والقوة التي تعمل فيه. فهو ابن لأب يشرق على الجميع مهما كان موقفهم منه، ويمطر على الكل دون تمييز. والثقة بالذات ترفع المؤمن فوق القانون الطبيعي. والسمو فوق القانون يأتي نتيجة الثقة بالعدل والإحساس بالسلطان.
فلكي نحقق الهدف من هذه الوصايا علينا أن نضيق الفارق بين ما نفكر فيه وما نمارسه. إنَّ الفكر هو :لا تقاوموا الشر، والممارسة هي: كيف نحقق هذا رغم الاحتكاك البدني والعنف المادي والنفسي؟! ما ذكره يسوع من إدارة الخد وترك الرداء هي مجرّد أمثلة، وعلينا نحن في عصرنا الحديث، أن نترجم "لا تقاوموا الشر" الترجمة المناسبة، في مواجهة الشرور العصرية، كالضغط النفسي وضغط الإعلام والحرمان من وظيفة أو ترقية...الخ
وليس الغرض فقط أن نرتفع نحن كبشر ونسمو بعدم مقاومة الشر، بل أن نقضي على الشر بصورة إيجابية واضحة، ويتم ذلك بعدم المقاومة. فالهدف هو محاربة الشر والقضاء عليه بصورة يومية ومتكررة.
إنَّ الطريق العادي الذي يسلكه الإنسان عندما يُعتدى عليه هو الانتقام. فاللطم يقابله تلقائياً لطمة مضادة.. وهكذا. لكن المسيح هنا يقول: لا تسير في الطريق العادي الذي يسير فيه كل البشر. فإن كنت تريد أن تطهر ذاتك من الانتقام خذ الطريق المضاد. لا تقاوم.. حوِّل الآخر.. اذهب معه اثنين... أعط ولا ترد أحداً.. إنه تدريب روحي ونفسي لتغيير شخصيتنا والسمو بها. إنَّ المسيح يدرِّب أتباعه هنا لتكون لهم نظرة جديدة للحياة، ولكي تتطوَّر شخصياتهم، ويقتلعوا جذور الانتقام من قلوبهم، الذي هو في الأصل اتجاه غريزي حيواني.
هل لنا طموح للوصول للكمال؟ إذاً لنتدرب على كيف نحب أعداءنا، وكيف نحقق الهدف من وجودنا في وسط المجتمع الذي نعيش فيه، وكيف نصلح أنفسنا والآخرين دون اهتزاز للثقة بالنفس، ودون إحساس بالضعف. فنحن نقوم بهذا من موقع قوة وسلطان، وفهم وإدراك، ومشاعر وأحاسيس. من موقع المسامحة والصفح والغفران والمحبة كما علَّمنا المسيح.
أ . جوني جورج حنكليس - محردة
الساعة
المواضيع الأخيرة
بحـث
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 52 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 52 زائر
لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 317 بتاريخ 11/3/2012, 10:31 pm
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المواضيع الأكثر شعبية
أفضل 10 فاتحي مواضيع
المواضيع الأكثر نشاطاً
أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر
لا يوجد مستخدم |
أفضل 10 أعضاء في هذا الأسبوع
لا يوجد مستخدم |
المسيحية و العنف
أ.جوني حنكليس- محرداوي سوبر
- عدد الرسائل : 130
العمر : 43
الموقع : محردة - شارع جبران خليل جبران
المزاج : إذا أردنا أن نحيا حياة العلا لا بد أن نموت عن حياة الصغائر
تاريخ التسجيل : 05/05/2010
بطاقة الشخصية
تجربة:
إذاً لنتدرب على كيف نحب أعداءنا، وكيف نحقق الهدف من وجودنا في وسط المجتمع الذي نعيش فيه، وكيف نصلح أنفسنا والآخرين دون اهتزاز للثقة بالنفس
هاد الشي الي لازم كل العالم تفهموا وطبقوا
هاد الشي الي لازم كل العالم تفهموا وطبقوا
موضوع مهم كتير
شكراً
شكراً
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم عن العنف:
" تستطيع أن تكون ذئباً يفترس و لا ترضي أن تكون حملاً في الوداعة و لكنك لا تستطيع ان تكون من رعية المسيح لأنه راعي حملان و ليس راعي ذئاب."
إن الانسان الذي يستعمل العنف يرفض المحبة فهو ينظر الى الأخر كشئ ينبغي تحطيمه و ليس كشخص يحترمه.
فالعنف يتجاهل أنسانية الانسان فهو لا يقيم وزناً للآخر سواء في فكره أو كيانه أو شخصيته ...
بعكس المسيحية فهي تثبت الانسان و تقاوم تحقير الاخر.
إن الوداعة ليست عاطفة حلوة أو موقفاً سهلاً مريحاً....
بل هي التزام صلب و شاق في عالم كثيراً ما تسوده شريعة القوة الغاشمة
"طوبى للودعاء لأنهم يرثون الارض"(مت5:5)
"طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"(مت:9:5)
تحياتي أ.جوني حنكليس ...تقبل مروري
" تستطيع أن تكون ذئباً يفترس و لا ترضي أن تكون حملاً في الوداعة و لكنك لا تستطيع ان تكون من رعية المسيح لأنه راعي حملان و ليس راعي ذئاب."
إن الانسان الذي يستعمل العنف يرفض المحبة فهو ينظر الى الأخر كشئ ينبغي تحطيمه و ليس كشخص يحترمه.
فالعنف يتجاهل أنسانية الانسان فهو لا يقيم وزناً للآخر سواء في فكره أو كيانه أو شخصيته ...
بعكس المسيحية فهي تثبت الانسان و تقاوم تحقير الاخر.
إن الوداعة ليست عاطفة حلوة أو موقفاً سهلاً مريحاً....
بل هي التزام صلب و شاق في عالم كثيراً ما تسوده شريعة القوة الغاشمة
"طوبى للودعاء لأنهم يرثون الارض"(مت5:5)
"طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"(مت:9:5)
تحياتي أ.جوني حنكليس ...تقبل مروري
شكراً لمرور الأستاذ فادي و السيد فارس
وشكراً لمداخلتك القيمة استاذ سامر فأنت إنسان جدير بكل ثقة و احترام وتقدير
شكراً لجميع الزائرين الأكارم
وشكراً لمداخلتك القيمة استاذ سامر فأنت إنسان جدير بكل ثقة و احترام وتقدير
شكراً لجميع الزائرين الأكارم
6/14/2015, 7:53 pm من طرف faiez algiousef
» من اجل قطع الشك باليقين
7/17/2014, 10:54 am من طرف asaad affour
» حوار الفاتنات
7/17/2014, 8:24 am من طرف asaad affour
» قصة حب
7/14/2014, 2:52 pm من طرف asaad affour
» حلقة بحث
5/2/2014, 7:49 pm من طرف asaad affour
» الصبي و الكرسونة
1/28/2014, 7:51 pm من طرف asaad affour
» مرض العصر..............السرطان
1/25/2014, 1:41 am من طرف asaad affour
» مشروع بحث علمي محرداوي حصرا
1/25/2014, 12:18 am من طرف asaad affour
» سجل حضورك في بيت عتابا
1/24/2014, 11:56 pm من طرف asaad affour
» أفكارنا هي السبب الرئيسي لأمراضنا
1/24/2014, 9:50 pm من طرف asaad affour
» للأذكياء فقط
1/24/2014, 3:00 am من طرف asaad affour
» حوار الفاتنات
1/24/2014, 2:51 am من طرف asaad affour
» الصيدليات المناوبة لشهر كانون الثاني وشباط 2014
1/19/2014, 10:01 am من طرف TIGER-1
» المجموعة الاولى من البومات صور محردة
1/2/2014, 6:08 pm من طرف TIGER-1
» المجموعة الاولى من فيديوهات محردة
1/2/2014, 5:54 pm من طرف TIGER-1
» من محردة الى عرش انطاكية
11/16/2013, 7:03 am من طرف TIGER-1
» جديد جديد مش عم تظبط معي
11/15/2013, 1:39 pm من طرف TIGER-1
» كيف بتقنع أهلك أنك بتدرس؟؟
11/13/2013, 10:20 pm من طرف FARES SH
» لعبة حرب الشاطئ Beachhead 2000
9/3/2013, 4:46 pm من طرف FARES SH
» طريقة فك قفل الحماية لموبايلات النوكيا !!!
8/17/2013, 6:54 pm من طرف FARES SH
» قصة الأربعين شهيدا
3/14/2013, 4:10 pm من طرف TIGER-1
» الله يرحم جميع الشهداء
3/14/2013, 4:08 pm من طرف TIGER-1
» المزرعة السعيدة
1/14/2013, 9:05 am من طرف mohammed drear
» الياذة العرب (10) الثانيه
12/31/2012, 2:15 pm من طرف انطون سابا
» الياذة العرب (10)
12/30/2012, 3:00 pm من طرف انطون سابا